مناورة الملكة.. فن التحليل ومتعة المشاهدة...

مناورة الملكة.. فن التحليل ومتعة المشاهدة... 


لطالما أمتعتنا وأتحفتنا السينما العالمية بالقضايا التي تطرحها، والمواضيع التي تتطرق إليها وكيفية معالجتها. والدراما التليفزيونية كذلك الأمر، تحديداً مع السنوات الآخيرة.

ربما على عكس العالم العربي، بل الأكيد أن هناك أفكاراً لا يمكن تناولها في صناعة الفن هنا، إلا بشكلٍ ثانوي دون التعمق والتغلغل فيها. 


شغلت أعمال السيرة الذاتية حيزاً كبيراً لدى صناع الفن في العالم، ويمكن الجزم أنها كانت منصفة بأغلبها تجاه أصحابها. حتى لو أضيفت لها رؤية صناعها. 


كما تحظى باهتمام واسع لدى المتلقي، كون قصص نجاح الغير وكفاحهم ونضالهم ملهمة لهم ومحفزة، (لو أثناء الفيلم فقط). بالإضافة لواقعيتها وكمية الدراما التي تحتويها. 


عملنا الذي سوف نتحدث عنه نستطيع أن نضعه ضمن خانة السيرة الذاتية الدرامية، إلا أن شخصية البطلة من الخيال أي ليست واقعية، إنما منحدرة من إحدى روايات الأدب.  وتحمل الرواية نفس عنوان المسلسل "The Queen’s Gambit" وهي للكاتب الأميركي والتر تيفيس، صدرت عام 1983 تتحدث عن فتاة عبقرية تحترف لعبة الشطرنج. دائماً ما يستخدم الشطرنج في الأعمال الفنية، كإسقاطات رمزية للتعبير عن الصراع والحرب الباردة بين الدول. كما تحملك على أخذ الحياة بعين الاعتبار والتعامل معها بفن. تعلم كيف تتروى بتفكيرك، وتتأنى بخطواتك، متى تتقدم وتتراجع.. ببساطة (المناورة). 


يقول ميخائيل بوتفينك (بطل عالمي سابق في الشطرنج) "الشطرنج هو فن التحليل". 


قصة مناورة الملكة "The Queen’s Gambit" 

مناورة الملكة عمل من إنتاج الشبكة العالمية نتفليكس عرض في 23 أكتوبر، تأليف "سكوت فرانك" و"آلان سكوت" وإخراج "سكوت فرانك".  أحداث الفيلم تجري في خمسينيات وستينات القرن الماضي، يروي العمل حكاية الطفلة إليزابيث هارمون الملقبة ببيث والتي تبلغ من العمر 9 سنوات(تؤدي دورها إيسلا جونستون)، تنجو من حادث سير تعرضت له بعد أن حصد حياة والدتها، التي قررت وضع حد لحياتها نتيجة ضغوط ومشاكل نفسية عانت منها بسبب وحدتها ولعدم اعتراف والد بيث بها، فتقدم على "الانتحار". تنتقل بعدها بيث للعيش في دار ميثوين للأيتام في كنتاكي. هناك حيث تكتشف بيث الصامتة موهبتها الفطرية، من خلال السيد وليام شابيل حارس الدار بعد زياراتها المتكررة له في القبو. في الزيارة الأولى يلفتها مايفعل وتسأل عن اللعبة التي يمارسها، لتبدأ لاحقاً رحلة التعلم. في ميثوين يعطى الأيتام كبسولات مهدئة كحل بديل لمناقشة مشاكلهم النفسية، تنصحها صديقتها جولين الاحتفاظ بالحبة الخضراء لموعد النوم لما تحققه من متعة. لتبدأ بفعل الهلوسة ممارسة وحفظ حركات الشطرنج، أثناء تخيلها الرقعة على سقف المهجع. بعد عدة مبارايات تتغلب الطفلة اليتيمة على المعلم، لتتوالى التحديات مع رئيس نادي الشطرنج، ثم بطل فريق المدرسة الثانوية. 

حياة جديدة خارج الدار

تخرج إليزابيث المراهقة (الممثلة آنيا تايلور جوي) من الدار بعد أن تبنتها عائلة تعيش في ضواحي ليكسينغتون، تاركةً خلفها ذكريات بعضها مفرحة (تحديداً فيما يتعلق بشق ممارسة هوايتها والملكة التي لديها)، وأليمة مغلفة بمشاعر اليتم والوحدة، والتيهان في عالم غريب. أيضاً عالم غريب جديد عنها في منزل لايشبهها، وغير مرغوبة به من قبل السيد ألستون ويتلي الذي تبناها لأجل إرضاء زوجته السيدة ألما ويتلي، والذي يقرر تركهم ويغادر البلدة. لتتكرر معاناة والدة بيث مع أمها الجديدة بعد مغادرة زوجها البلدة، فتجدها غارقة بين كؤوس الكحول والكبسولات المهدئة. لتتخذ من بيث ابنتها المتبناة بعد أن اكتشفت عبقريتها في لعبة الشطرنج، وأنها غدت نجمة عالمية في هذه اللعبة، ملاذاً للنجاة من حالتها وفي تحسين ظروف معيشتها والتنقل في الفنادق الفخمة. يمكن وصف العلاقة بينهما على أنها علاقة مصالح واستغلال متبادل. لتصبح العلاقة تباعاً أكثر عاطفية. ونلاحظ ذلك بعد وفاة السيدة ويتلي، مما يؤثر على نفسية بيث لتصبح أكثر إدماناً على الكحول، وأكثر إهمالاً لحياتها، وأكثر تشتت. 

أداء تمثيلي فاخر 

في سبع حلقات تتراوح مدة كل منها ما بين 50 إلى 60 دقيقة، وبمشاهد تكاد لا تخلو من حضورها إلا فيما ندر. تمكنت الممثلة "أنيا تايلور جوي" من الاستحواذ على عقل المشاهد قبل عينه، بتقمصها الشخصية بمرحلة المراهقة والشباب. بالتأكيد خبراء المكياج كان لهم دور بارز في تصغير شكلها، وإظهارها كفتاة مراهقة. لكن لا يمكن إغفال دورها كممثلة بارعة، نقلت لنا الشخصية بتفاصيلها الإنسانية ودوافعها. معاناتها كيتيمة، حلمها وطموحها أن تغدو أستاذة كبيرة في اللعبة، الثقة الزائدة بالنفس، جنونها المرافق لذكاءها، إصرارها تعلم اللغة الروسية لمواجهة خصمها الروسي بطل العالم، إدمانها العقاقير والكحول، الاهتمام بأناقتها وأنوثتها رغم أنها في عالم يتسيده الرجال. 


في لقاء صحفي أجرته بيث في الحلقة الثالثة تقول واصفةً اللعبة  "إنها عالم كامل داخل 64 مربعاً.. أشعر بالأمان فيها.. يمكنني التحكم فيها والهيمنة عليها.. كما أنها متوقعة.. وإن خسرت فلن ألوم إلا نفسي". 


بيئة فنية عرابها كل من النص والإخراج 

قُدم نص غني يتكئ على دراما حياتية عميقة، تناول قصة نضال وكفاح فتاة محطمة داخلياً، تتخذ من الشطرنج ملاذها الأمن وسلاحاً تواجه به المجتمع، بفضل عبقريتها. لتكون البوابة التي تنخرط بها في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. 


أما الإخراج فكان جلياً الاهتمام بنقل الجو السائد في فترة الستينات، من ملابس وديكور،  كما يحسب له البراعة في تحقيق عنصري التشويق والإثارة أثناء تصوير مبارايات الشطرنج، وحركات الأحجار. (ربما كان قد أصابك الملل لو كنت تتابع مباراة تجري أمامك). والتركيز على الملامح ولغة الجسد للاعبين. ثلاث مراحل عمرية وضعها المخرج أمامنا، عايشنا تطور بيث في عالم اللعبة وصعودها في دنيا النجومية. حكاية تجعلك تتأمل أبعادها الإنسانية، تصور لك الجانب المشرق للشعوب بعيداً عن سياسات ومصالح الأوطان. 


 العمل غني بحوارات حققت مشاهدة ممتعة للمتفرج، إلى جانب كل من الإخراج الذكي والأداء التمثيلي المميز. 


من مشروع فيلم إلى مسلسل 

في إحدى تصريحاته للصحافة والإعلام، ذكر "آلان سكوت"  منتج ومؤلف فيلم  مناورة الملكة، أن الرواية التي اشترى حقوقها  قبل 30 عاماً كانت ستتحول إلى فيلم سينمائي، وكان من المقرر أن يقوم بتولي عملية الإخراج الممثل "هيث ليدجر" المعروف بشخصية الجوكر، إلا أن وفاته عام 2008 حال دون ذلك.  ونتيجة مشاكل واجهة المشروع تم تأجيله لأكثر من عقد. 


 

سكوت فرانك يمدح تايلور جوي

صرح المخرج "سكوت فرانك" في الإعلام، أنه فكر في "أنيا تايلور جوي"  للدور بعد أن شاهدها في  "indie thoroughbreds"  عام  2018. كما أوضح أن الشيء المذهل فيها أنها تتحكم بنفسها بطريقة لا تراها كثيراً في الممثلين، حتى أنها وجدت طرقاً ممتعة لتحريك قطع الشطرنج، أيضاً الطريقة التي تعقد فيها ذراعيها، أو التي تنظر فيها بعيداً. فهي معبرة جداً، ويمكنها فعل الكثير بالقليل. 


https://youtu.be/CDrieqwSdgI


بقلم:علي عمار 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماريا ديب "أم عمار" ذاكرة الجمهور ومايطلبه...

ميس حرب لدي الامكانيات لتقديم المختلف وسأدخل عالم الرواية